رسالة إلى خالد.. المعتقل الشهيد
بلال البرغوث | November 21, 2016
ما زلتَ يا صديقي وكأنَّكَ ماثلٌ أمام ناظري مع دفاتر الرّسم وأقلام الرّصاص وطموحِك الشّاب الذي لا حصر لحدوده، ما زلتُ أذكُر كل تفصيلةٍ من حقيبتك الإسعافية في أيام الثورة الأُولى، وما زالت أذناي تسمعان لُهاثنا حين نهربُ من مرمى القنّاصين، ما زلتُ أشعر بنفس الإحباط والألم عندما أُخبِرتُ بمأساة اعتقالك وقد أكون أنانياً كفاية لأبوحَ لك بأنّني في كل يوم آملُ أن يكون خبر استشهادك في المعتقل غير صحيح، أملاً منّي أن أراك يوماً ما.
آملُ أن أراك رغمَ أنّني سأخجل حينما ترى حالنا اليوم وتعلم أن تضحياتك وتضحيات رفاقنا ممّن استشهدوا أو ما زالوا يُعَذّبون في أقبية المعتقلات قد توجِر بها أو لربّما بيعَت وقُبِضَ ثمنها.
كيف لي أن أخبرك يا صديقي عن أبنيتنا المدمرة وشوارعنا المنكوبة وعن كل أمٍّ ماتت وجنينُها في بطنها، أو عمّن ماتوا وهم نائمون؟
نعم يا صديقي أحسدك لأنك كنت في المعتقل يومها، حين ماتَ النائمون لأنهم تنفّسوا، حين وقفنا عُجّزاً في حضرة مئات الأطفال والشيوخ والنساء والشباب وهم يختلجون ويزبدون ويحتضرون حتى الموت، يوم كانت السيدة تدخل على غرفةٍ فيها عشرات الأطفال المُرقّمين لتختار منهم ولداً وتقول هذا حفيدي.. نعم أحسدك لأنك كنت في المعتقل كي لا ترى رجلاً لم يبقَ منه إلا يده المتفحّمة، وآخر انقضّ عليه السّقف فقضى عليه وعلى أهله.
أم أحدثك يا صديقي عن خيمٍ يتوسّطها عمود خشبي، يعيشُ فيها عزيزُ قومٍ بعد أن جار الزمان عليه، أو عَلِّي أُخبرك عن الخيمة حين أحرقتها سلطاتُ الجوار، وشرّدت من كان يبيت بمأوى لا يقي حرّاً ولا برداً، أَأُخبرُك عن المرتجفين برداً في خيمٍ منصوبةٍ على الطين، أو عن إيلان الذي تقاذفته الأمواج، عن الخائفين في بحر إيجة، عن الغرقى، عمّن عبروا البحار هرباً إلى المستقبل، عن العالقين بين الحدود!
أَأحدثك يا صديقي عن عمران الذي فقد أخاه ونجا؟ أم عن آلاف «عمران» الذين لم ينجوا؟ أم عن سيّدة ترسم الدّماء ملامح وجهها وقد خرجت من تحت الأنقاض.. عن المبتورين والمعاقين وهم بالآلاف؟
قد أكونُ خنتُ عهدي حين قررت في منتصف عام 2015 بأنانيتي مجدداً أن أفرّ من الزحف، أن أترك أحلامي على بقعةٍ تمعّنتُ في رسمها عليها، على أرض حلمت فيها بالحرية كل يوم، دفنت تحتها أصحابي ورفاق دربي في سبيل حريّةٍ منشودةٍ لم نرَها بعد، تركتُ فيها أباً مات في غيابي، وأُمّاً تعدُّ ساعات الانتظار، ولكن ما لا تعلمه يا صاحبي أنّهم أفقدوني الأمل أو أنهم بدقيق الملاحظة حاربوه، أحرقوه، قتلوه بالكيماوي، أغرقوه، صادروه كما صادروك خلف القضبان، حتى إنني بتُّ أهلوس بالبرميل المتفجّر والصاروخ الموجّه وصوت الطائرة، وأنّ كابوس الباص الأخضر لاحقني بشدة حتى أقضَّ مضجعي.
ما لا تعلمه يا صديقي أنّ النظام استفاد من سياسة النّفس الطويل في المعركة، فاخترق صفوفنا بالمناطقية والفصائلية والمذهبيّة، فكسبَ شوطاً بالمعركة بينما ما زلنا نلملم خيبات أملنا، ونتقاذف الاتهامات بأسباب الضعف والهزيمة، ولم ندري بعد أنّنا نحن أسبابها، وأنّ مفاتيح النصر بأيدينا نحن، ولكننا لا نريد رؤيتها والأخذ بها.
قد لا تعلمُ يا صاحبي أنّنا كذبنا عندما هتفنا: «الشعب السوري واحد»، ويا لَحسرتي أنّك ورفاقك دفعتم الثمن، بينما نتحاربُ بين بعضنا، ونوجّهُ السلاح إلى غير وجهته، بينما تكتّلاتنا السياسية وهيئاتنا يقتاتون على بقايا دمائنا.
ضاعت يا صديقي مدينتنا الأفلاطونية التي كنتَ ترسم هندستها على دفاتر رسمك، ضاعت تلك الألفة التي خُلِقت في بداية الثورة، ثمّ فقدت بريقها عندما طال الزمان بها، عندما بات زعامتنا يعتمدون شعار «جميع الحيوانات متساوية ولكن بعضها أكثر مساواة من غيرها»، ولربما كنت أنت ورفاقك ذلك الحصان الأصيل «بوكسر» الذي لم يغير ولم يبدل حتى مذبحه.
سأراك يا صديقي يوماً.. سنَبوحُ حتى تطلع نجمةُ صبحِ يومٍ جديد، فأنا أناني كفاية كي آمل أن تكون على قيد الحياة، بينما أتخيّل مقدار الألم الذي تعانيه اليوم في سجنك، ومن بعده الألم الذي ستعانيه عندما ترى ما وصلت إليه أحوالنا.
سأراك.. وآمَلُ في سوريتنا الحرّة.
المصدر | عربي بوست