النظرة الأخيرة!
بلال البرغوث | January 15, 2018
النظرة الأخيرة يا عزيزي هي النقطة التي تنتهي معها شرائط الذكريات التي تملكها مع هذا الجسدِ البارد المستلقي أمامك، تلك النقطة التي تصارعُ فيها الحقيقة، تعبثُ بالوقائع والمعطيات في خلايا دماغك، تفتحُ عينيك تُلقيها بخفّة، ثم تغمضُ وتتمنى لو أنّها أضغاث أحلام، ثم تفتحهما مجدّداً، ثمَّ تُلقي بيدك على هذا الراقد البارد أمامك، تتحسَّسُ وللمرة الأخيرة ملامحه، فتتثبَّتُ الحقيقة يقيناً في قلبك، أنّه ذهب إلى غير رجعة.
وأياً تكُن عزيزي القارئ، فما لَم تكُن سوريّاً أو يمنيّاً أو ربّما عراقياً، فلن تعرف ما تعنيه هذه النّظرة بالنّسبة لنا معشر «مَن فقدناها»، ففي كثيرٍ من الحالات السورية مثلاً، فإنّ البرميل يسقط على البيت ويقتل مَن كان فيه، وتتشظّى أجسادهم وتتقطع وتتناثر، فلا يبقى منهم إلّا أجزاء مشوّهة من اللحم، فلا يتسنّى لك أن تحظى بهذه اللحظة الأخيرة، فلا أجساد ولا ملامح تُمعنُ النّظر فيها للوداع، بل بقايا أجسادٍ تنتمي للعديد من الأشخاص تجمعها في كيسٍ أسود وتسيرُ بها نحو المقبرة، تحفرُ لها، ثم تردمها، تقرأُ الفاتحة وتمضي…
هنا يا عزيزي ستدرِكُ ما تعنيه هذه النظرة، وستعلم أنّك وفي داخلك بقي هؤلاء دون لحظةٍ «خاتمة».
أمّا إن كانوا -أي أحبابك الذين استشهدوا- محظوظين كفاية ليموتوا بأجسادٍ كاملة، فقد يكونون ضحايا الكيماوي، وفي هذه اللحظة وفي صيف 2013 في غوطة دمشق الشرقية لن تتمكَّن من إيجاد جثثهم بين آلاف الجثث التي قضَت ثم رُقِّمت ودُفِنَت قبل المغيب في مقابر جماعية؛ لعدم وجود إمكانية تبريد هذه الجثث وحفظها لأيام نظراً لانقطاع التيار الكهربائي عن المنطقة المحاصرة وللعدد الهائل من ضحايا الهجوم.
وقد يكونون قد أصيبوا بالقصف بشكلٍ لم يشوِّه ملامحهم، ولكن ولنفس السبب المتعلق بعدم إمكانية حفظ الجثة، فإنّك ستصلُ إلى بيت أهل صاحبك وقد دفنوه سلفاً وعندها ستكون قد فوتّ لحظتك الأخيرة معه.
وقد يستشهدون تعذيباً في سجون الأسد، فلا ترى منهم لا بقايا ولا أجزاء، ولا تتمكّن حتى من معرفة أمكنة دفنهم!
ويا لَتعاستك يا صديقي حين تفوت تلك اللحظة، فإنّ حسرتها سترافقك للأبد، فلم تلقَ صاحبك ولا أخوك للمرة الأخيرة، ولم تمسك يده، وتسرُّ حبُّك الصادق في أذنه، وترسم قبلتك الأخيرة على جبينه.
أمّا إنْ هربتَ من تلك الطريق المقدّسة هناك، فإنّك ستفوِّتُ كل تلك اللحظات الأخيرة، مع أبيك وأخيك وصاحبك، ستشقى في بقاع الأرض، ستكونُ آلاف الأميال تفصل بينكم، ثمّ آلاف الحواجز التي نصَبها الأسد، ثم آلاف الجنود الذين ما إن عرفوك مطلوباً إلّا وتسابقوا في صفعك وشتمك ورفسك، قبل أن يودعوك القفص.
أعلمُ أنّ تلك النظرة الأخيرة قد لا تعني للكثيرين، وأنَّ هناك آلاف اللحظات التي قد جمعتك بمَن رحَلوا بحيث تستطيعُ وسمَ صورهم ولحظاتهم في موسوعة ذكرياتك، ولكن -وبالنسبة لي- فإنّ تلك اللحظة الأخيرة هي التي تسقط حولها الماديّات وتبقى وحدها لغة الحبِّ حاضرة؛ لتُخرج كل خفايا القلب وانكساراته.
في تلك اللحظة تتعرّى القلوب، تُسقِط كل مشاكل الماضي، تعفو وتطلب العفو، تتناسى أو حتّى إنّها تنسى كل اللحظات البشعة، وتستوردُ كل اللحظات الجيدة.
في المنفى تُهنا عن تلك الطريق المقدَّسة، فخسرنا كل لحظاتنا الأخيرة وما قبل الأخيرة مع أهلنا الذين بقوا هناك يُجَرَّعون شتى أصناف العذابات والموت.
فإن لم تهرب بعدُ يا صديقي فتذوّق كل لحظةٍ مع كلِّ قريب في صباح كل يومٍ مهما تعاظَمت فيه آلامك.
المصدر | عربي بوست