الطريق من الكانتونيّة إلى سوريتنا الجديدة
بلال البرغوث | October 13, 2017
في سوريا الكانتونيّة الحالية أضحَت الدولة الصغيرة عدّة دويلات بحكم الأمر الواقع، وفي كلّ كانتون تحكُم فئة لها توجهاتها السياسية والدينية والثقافية بل وحتّى القومية، لكن كل الفئات على اختلاف توجهاتها اتّفقت على صَبغ الشعب في البقعة التي تحكُم بصبغتها الأيديولوجية، وأنا هنا أوصّفُ حال معظم العسكَر، أي أنّهم احتذوا بالنموذج البعثي في ذلك وهو الذي حاول خلال النصف قرن الماضي اختصار المجتمع في لونه وحده وإلغاء الآخر والقضاء على التعددية بكل أوجهها.
في سوريا، البعث كان قائداً للدولة والمجتمع والتمرّد عليه وعلى رموزه هو خيانة عظمى للدولة، كان الطالب مضطراً إلى أن ينتسب لحزب البعث وأن يدفع أجور الاشتراك الشهرية، وكان الموظّف عليه أن يكون بعثيّاً ليترقى بسلّمه الوظيفي، وكانت أغلبية مجلس الشعب «بعثيين» والحكومة «بعث»، والأساتذة بعثيّين والسجّان بعثياً و….. كان البعث يصبغ سوريا بأيديولوجية دخيلة على المجتمع ويفرضها بالنّار عليه.
وبالنّظر للحال اليوم، فإن المؤسسة الأمنية للنظام ما زالت تحكم مساحاتٍ بنفس الطريقة لترسّخ وجود شبه الدولة المحكوم من قبل عصابة مجرمة، وبما أنّ ذلك ليس مستغرباً عن مؤسسة النظام، إلّا أنّ المستغرب أن تنتهج بعض جماعات المعارضة نهج البعث في ترسيخ أفكارها على الكيلومترات التي تحكمها.
وهنا لا أتحدث عن داعش بالتأكيد، فهي جماعة مارقة تماثل النظام في الإجرام وتهديد المجتمع وهويّته وثقافته وتعدديته، وبالطبع كذلك لا أتحدّث عن الفصائل الكردية الانفصالية التي تهدد وحدة الشعب السوري، وترتكب تجاوزاتٍ جمّة من تهجيرٍ للعرب، وفتح جبهاتٍ على قوات الجيش السوري الحر، وتحالفٍ مع النظام وأعداء الشعب السوري.
إنما حديثي كله عن فصائل المعارضة التي تحاول جاهدةً تأطير المجتمع بأفكارها بظنّها أنّها الأحقُّ، بل وإنّ كل جماعة منها تحتكر الله لها وحدها وتعتبر أنّها أهل الله وخاصّته، ولربما لم يعلموا أنهم فرّقوا مجدداً بين الأخ وأخيه وقسّموا المناطق والقرى بل وحتّى العوائل اعتماداً على شهادات الولاء للجماعة والبراء مما سواها، أن يحصل هذا داخل الصف المعارض الواحد فقد فَتَّت جبهته وأذهبَ بريق قوته وعمل مجدداً على صهر المجتمع في بوتقة مشاريعهم الضيّقة وزاد وعورة الطريق لإيجاد دولة المواطنة المبنية على قبول الآخر، وهو بالطبع مطلب الجموع الثائرة توقاً للعدالة والحرية.
وإن كنتُ هنا أنتقد المعارضة دون سواها، فهو لأنّها الأمل الوحيد لإعادة بناء الثقة بين مكونات الشعب السوري كونها الأقل تورّطاً في مستنقع دمائه؛ ولأنّ بناء دولة العدالة هو القاعدة التي ارتكزت عليها بناء هذه التنظيمات، ولأنّ احترام الإنسان وضمان حريّة أفكاره ومعتقداته هي المهمة الموكولة لهم في ظلّ إرهاب الأفكار الذي يرتكبه مَن سواهم.
وعليه.. فإنّ الطريق لبناء سوريا الجديدة يمرّ من إيمان هذه الفصائل بضرورة العمل الجماعي وقبول الآخر، والعمل على مد جسور الثقة بين مكونات الشعب مجدّداً، وإن كان ذلك بلا شك يبدو كلاماً أدبياً حالماً، فإنّ الوقائع تثبت أنّه لا يمكن بناء الدولة دون تحقيقه، وإلّا فإنّ أي دولة مستقبلية على هذه الشاكلة الكانتونية المقسمة لمناطق نفوذ سواءً سياسي أو إيديولوجي ستكون دولة هشّة وربما تكون أكثر من هشّة بأن تكون دولة فاشلة، وما الأمثلة الإقليمية كلبنان والعراق إلّا نتيجة واضحة لتقاسم المقاعد على أساس طائفي ومذهبي ومناطقي دون بناء قاعدة الثقة بين هذه المكونات وهي المطلب الأساسي بلا شك لبناء أي دولة توَد ضمان الاستقرار لشعبها.
الطريق إلى سوريا الجديدة، سوريا التي حلمنا بها والتي ضحّى شعبنا في سبيل حريتها وكرامتها، يمرُّ فقط من إيمان كلّ فردٍ مكوّنٍ لهذا المجتمع المتعدد بأهمية احترام مواطنيه على اختلاف انتماءاتهم، احتراماً لذاتهم ولحقوقهم وللكيانات التي يبنونها وللدور الذي يشكلونه في بناء جسد الوطن المتكامل بجميع نُسجِه، فإنْ لم نَعِ تلك الطريق، فلا سوريا جديدة وستكمُّ الأفواه ويعلو صوت الجلّاد وينتصبُ حذاءه العسكري مجدداً.
المصدر | عربي بوست